على مدى الأسبوعين الماضيين استمر التعتيم على عدد هائل من الأسئلة المحورية فيما يتعلق بالقرض الذي تسعى حكومة الرئيس مرسي للحصول عليه من صندوق النقد الدولي. مازلنا لا نعلم لماذا تم رفع القيمة المطلوبة بـ١٠ مليارات جنيه كاملة. ومازال البرنامج الاقتصادي الذي سيطرح على مفاوضي الصندوق مجهولاً. واكتفى مجلس الوزراء بإصدار بيان يؤكد فيه أنه «لن يضار مصري منه» دون أن يقول لنا فيم سنستخدمه وكيف سنرده. لكن أنصار القرض قدموا لنا حزمة من الأسباب لتبرير فوائده أو ضرورتة التي تبيح المحظور من أضراره. وهي أسباب مردود عليها.
١ــ الوضع الاقتصادي كارثي
هذه فكرة نسمعها منذ اللحظة الأولى لتنحى مبارك. أعطانا رئيس الوزراء وقتها أشهر معدودة قبل أن تحدث مجاعة. وفى كل مناسبة يخرج لنا أي من يصبح في مكان صنع القرار أرقاماً موروثة عن الدين العام وعجز الموازنة (اللذين عشنا بهما ويعيش بأسوأ منهما اقتصاد الولايات المتحدة عقوداً دون معالجتهما واللذين يجدر الانتباه إليهما لا جدال) للتدليل على الكارثة المحدقة. وبينما لم تتخذ أي حكومة من تلك أي إجراءات مما تستحق أن توصف بالعاجلة أو الطارئة للتعامل مع هذا الوضع الذي لا يقول لنا أحد تفاصيله أبداً، فإن الفكرة دائما مطروحة ضد مليونيات التحرير ومطالبات المواطنين بمد مظلة التغيير لعلاقات العمل وعجلة الإنتاج غير العادلة. لا يكفي أن تخبر الشعب بأن هناك كارثة وتكتفي بذلك. ولو كانت موجودة فما هي عناصرها وأسبابها وماهو برنامجكم للتعامل معها؟
والحقيقة أنه مع اعتراف المراقبين الدوليين بأن الوضع حرج من ناحية التدفقات المالية ووضع الاحتياطى وموارد الدولة...إلخ، إلا أنها لم تصل أبدا للتعامل مع إشارات حكوماتنا المتعاقبة بجدية أن الافلاس محدق. وكانت سمة كل تقارير مؤسسات التقييم الدولي التى تخفض التصنيف الائتماني لمصر تضع فى مقدمة أسبابها ما لم تجرؤ حكومة على إثارته: عدم الاستقرار السياسى الذى يتسبب فيه سوء إدارة المجلس العسكرى للمرحلة الإنتقالية. لهذا أيضا تجاهلت حكومتنا وأنصار القرض التقرير الأخير لستاندارد آندبورز الذى نزعت فيه التقييم السلبي للجدارة الائتمانية طويلة الأجل، فقط بسبب ما قالت إنه «اتمام ترتيب قابل للتنفيذ بين المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم مما يمكن من إيقاف التدهور فى ماليات الدولة». وأضاف التقرير أنه «فى رأينا أن عدم الوضوح يبقى فيما يخص أهداف السلطات السياسية ووضعية مؤسسات الدولة. ونحن أيضا نعتقد أن عدم الاستقرار الداخلي يمكن أن يظهر مرة أخرى للسطح عندما تنتهي كتابة الدستور أو مع الانتخابات البرلمانية». هل هناك كلام عن كارثة اقتصادية هنا؟ معضلة شركات التقييم الرئيسية هي السياسة. والآن لدينا رئيس منتخب. وكلما زادت الشفافية ووضحت المعالم الديمقراطية للنظام السياسى الجديد، فإن ذلك هو المفتاح.
٢ ــ الفائدة ممتازة ولا توجد شروط
الفائدة فوق الـ١٪ بقليل ولا تقارن بالفائدة على الاقتراض بالجنيه عبر الأوراق الحكومية التي وصلت إلى مافوق ١٥٪. يغفل من يقولون بذلك أن الفائدة بحسب المعادلة التي يحسب بها الصندوق متغيرة أي أنها تستفيد من الانخفاض التاريخي فى أسعار الفائدة العالمية الآن (جزء من معادلة الحساب). ولكن ماذا بعد ٣٩ شهراً من التوقيع وهي فترة السماح المعلنة حتى الآن؟ هل هناك ما يضمن بقاء هذه المستويات التاريخية فى انخفاضها؟ وماذا عن معالجة الأسباب التى ترفع تكلفة الاقتراض وأبرزها عدم الاستقرار السياسي؟
أيضاً تقدمت لنا رئاسة الجمهورية ببيان يتناقض مع تاريخ وحاضر وواقع الصندوق مع العالم النامي وغير النامي كله قائلاً: القرض بلا شروط. يتناقض هذا مع تجارب ماليزيا وإندونيسيا وعشرات الدول التي تتعامل مع الصندوق على رأسها مصر، وهو أمر مثبت أكاديمياً وسياسياً واقتصادياً: وصفة معممة لفتح الأسواق وتحرير أسواق رأس المال والخصخصة...الخ. بل ويتناقض مع ما يفعله الصندوق مع دول أوروبا المعرضة للافلاس كاليونان وإسبانيا. إذ أنه هو والمانحون من دول أوروبا لهم قول واضح في تفاصيل الموازنات والسياسة الاقتصادية مقابل ما سيدفعونه حتى لو ناقض ذلك مصالح الهيئة الانتخابية من مواطني هذه البلدان. لا قرض بلا شروط.
٣ــ لا توجد بدائل والاقتراض ليس مشكلة
يقر بعض أنصار قرض الصندوق بوجود شروط فيطالبون بإعلانها والتفاوض عليها. لكنهم يصرحون أيضا بأن مجال الحركة محدود: المضطر يركب الصعب لأنه لا بديل. ولا أحتاج هنا للتذكير بعشرات الإجراءات المطروحة في برامج المرشحين الرئاسيين ولا بالبدائل العديدة التي طرحتها الحملة الشعبية لاسقاط ديون مصر وحزب مصر القوية وغيرهم، وعلى رأسها إصلاح النظام الضريبي وتعديل فوري فى الدعم الهائل الذي تضخه الدولة للأغنياء وضم الصناديق الخاصة للموازنة...الخ. لأن دعوى الاقتراض من الصندوق لغياب البدائل لا تستقيم مع خطة التقشف الهائلة التي تشملها الموازنة الحالية (لم تعدلها حكومة الرئيس للآن) فى بنود الانفاق على التعليم والصحة والاستثمارات العامة، ولا تستقيم على الاطلاق مع زيادة دعم الصادرات (وما أدراك ماهو دعم الصادرات ومن يحصل عليه من محاسيب نظام مبارك)، والتي أقرها وزير التجارة والصناعة في موازنة يفترض أنها موازنة الثورة الثانية. بل ويفاجئنا هؤلاء بموقف نظري مناقض لموقفهم إذا تحدثت عن أن أهداف التشغيل والتحفيز والعدالة الاجتماعية يجب أن تأتي قبل هدف تحجيم عجز الموازنة، فيناقضون أنفسهم بالدعوة للاقتراض. وهم على حق فى أن الاقتراض ليس سبة فى حد ذاته، لكن ممن وبأي شروط ولحساب من وكيف سيستخدم؟ ولماذا نقترض من الصندوق لسد العجز مؤقتاً، ولا نقترض لبناء مدارس ومستشفيات وخلق طلب وتحفيز الاقتصاد؟ ونذكر الجميع بأن صندوق النقد الدولي ذاته قبل مشروع الموازنة الأولى الذى قدمه د.سمير رضوان وكان ينضوي على عجز يقترب من ١٢٪ من الناتج المحلي مصحوباً بزيادات في الانفاق الاستثمارى العام وضريبة تصاعدية وأخرى على الأرباح الرأسمالية، قبل أن يرفضها المجلس العسكرى ويعيدها بدعم من المجلس الأعلى لحكام القوت إلى حدود موازنات يوسف بطرس غالي.
٤ ــ البدائل ممتازة ولكن
يقبل البعض من أنصار القرض كل الردود السابقة لكنهم يدفعون بأمرين. الأول، هو أن هذه البدائل «الضرورية والمنطقية والسليمة» ستأخذ وقتاً قبل أن تعكس آثارها في ميزانية الدولة الموجوعة. ويتجاهل هذا الرأي أنه على سبيل المثال سيؤدي إلغاء دعم طاقة الأغنياء فى المصانع واليخوت وفنادق ال٥ نجوم وسيارات الدفع الرباعي وغيرها إلى رفع عبء أكثر من ١٥ مليار جنيه فورا عن موازنة الدولة. وماذا لو كنا قمنا بذلك عندما تم الاعلان عنه في حكومة شرف الأولى جنبًا إلى جنب مع تحميل المواطنين أعباء ضريبية عادلة أو تفعيل الضريبة العقارية الجاهزة للتطبيق أو غيرها. ولماذا لا تطبق هذه الإجراءات حالاً لتؤتي أكلها فور الإمكان؟ ولماذا ننتظر أكثر من ذلك؟ كما أنه ومن قال إن قرض الصندوق سيكون متاحاً فوراً. علينا أن ننتظر البرنامج الحكومي الذي سيناقشه الفريق الفني للصندوق لإقراره. ويقول لنا حزب الحرية والعدالة إنه لن يكون برنامج حكومة الجنزوري (قال الصندوق إنه عام ويحتاج عمقاً تفصيلياً) وإن الحزب بصدد إعداد برنامج جديد يتم التفاوض على أساسه. كم شهراً سيستغرق الاعداد والنقاش. ثم نحن نتعامل هنا مع مؤسسة دولية لها تقاليدها وإجراءاتها البيروقراطية حيث يجب أن تقر مستويات إدارية عدة القرض حتى يصل لمجلس إدارته، وهذا أمر يستغرق شهوراً. لو تم الأمر بمنتهى السلاسة فى كل هذه العناصر، فإن الدفعة الأولى لن تصلنا قبل ٦ أشهر، أي ليس حالاً وليس فوراً.
الأمر الثاني هو أن الاحتياطي يتآكل مما يؤثر على الجنيه ونحتاج دعماً من عملات أجنبية. والحقيقة أن هذا لا يعالج شيئاً. لقد استمررنا على مدى سنة ونصف نسحب من الاحتياطي لتغطية تهريب الأموال وتغطية تراجع عوائد السياحة وهروب الاستثمارات بلا قيد أو شرط. واقترضنا مليارات الدولارات من دول عربية ومن البنك الدولي والاسلامي. فى المقابل لم تتخذ الحكومة أي إجراءات لتقييد خروج رؤوس الأموال من البورصة، وبعضها تهريب لمال فاسدين ولو بضريبة، ولم تتخذ أي خطوات لتحجيم استيراد مستردة «ديجون» الفرنسية ومنتجات «برادا» وسيارات البي ام دبليو من سلع المترفين التي ترفع قيمة وارداتنا بالعملة الأجنبية. بل لم تطبق حتى نظاماً للكوتة يسمح باستيراد هذه السلع إلى حد معين. ثم يطلب هؤلاء الاقتراض لدعم الاحتياطي دون إشارة – حتى إشارة - لوقف أسباب التسرب ذاته أو حتى محاصرتها.
٥ ــ إشارة ممتازة للسوق العالمية والمستثمرين
يحرص حزب الحرية والعدالة في بيانه عن القرض، الذي يقبله فيه من حيث المبدأ، على أن يذكرنا بأن دوافعه ومعاييره ليست «أيديولوجية». وكأن المدافعين عن القرض لا ينطلقون فى ذلك من أفكار مسبقة أيديولوجية.. وجامدة أيضا. أبرز هذه الأفكار هو أنه يعد إقراراً من الصندوق بجدوى برنامجنا الاقتصادي مما يطمئن الاستثمار الأجنبي والمانحين الآخرين. هذا كلام أيديولوجي بامتياز: برنامجنا لا قيمة له فى حد ذاته (وهذا غير صحيح. هل جربنا اعلان برنامج وطني متكامل وشفاف ومحدد المعالم ولم تستجب الأسواق العالمية؟) ونحن نحضره لإرضاء الصندوق وانتزاع شهادته، لأنه لا مخرج لنا سوى في الاستثمارات الخاصة والاستثمارات الأجنبية وفي شعور المستثمرين ناحيتنا. هذا رطان إجماع واشنطن الفاشل الذي دفنته الأزمة العالمية منذ ٤ سنوات. لا موقف في السياسة والاقتصاد يخلو من الأيديولوجيا والقناعات المسبقة، وليس هناك سياسة اقتصادية علمية منزهة عن المصالح. مايهم هو أي مصالح؟ ومن تخدم الأيديولوجيا، وهل تصمد أمام اختبار الواقع أم لا.
●●●
لا لقرض الصندوق
[عن جريدة "الشروق" المصرية.]